تحليل قطاع الكهرباء العراقي.. جذور المشكلة وافاق الحل

تحليل قطاع الكهرباء العراقي جذور المشكلة وافاق الحل

الباحث الاستاذ رائد الحامد

مستشار في مجموعة الأزمات الدولية International Crisis Group

منتدى صنع السياسات- لندن IFPMC 2020

 

مدخل:

أعطت الحكومات السابقة والحكومة الحالية وعودا للعراقيين بتحسين الخدمات الأساسية، الكهرباء بالدرجة الأساس، مع ادراكها لحجم التحديات التي تواجه هذا القطاع الحيوي الذي يمس نمط الحياة اليومية للمواطن وانعكاسات ذلك على مجمل القطاعات الأخرى المرتبطة بوفرة الكهرباء، الصناعة والزراعة والسياحة والخدمات الأساسية بما فيها الماء الصالح للشرب وغير ذلك.

لكن سوء الأداء الحكومي واعتماد المحاصصة السياسية بديلا عن الكفاءة والخبرة انعكس على عموم القطاعات الحيوية في العراق، ومنها قطاع الكهرباء الذي ظل يعاني من هشاشة الأوضاع الأمنية وسرقة الأبراج الناقلة للتيار الكهربائي وتفجيرها أحيانا بالإضافة إلى سرقة الاسلاك وتهريبها إلى خارج العراق.

أدى سوء تقديم الخدمات الأساسية والانقطاع المتكرر لامدادات الكهرباء إلى وضع تحسين هذه الخدمة على قائمة أولويات مطالب المحتجين في العاصمة ومحافظات وسط وجنوب العراق التي شهدت حركة احتجاجية واسعة بدءاً من الأول من أكتوبر/تشرين الأول 2019.

اضاءة على مشكلة قطاع الطاقة الكهربائية:

هناك واقع مؤكد بوجود عجز في حجم الإنتاج المحلي من الطاقة الكهربائية بما يكفي حاجة العراق ما أدى إلى زيادة حجم الطلب قياسا إلى حجم الإنتاج طيلة سنوات ما بعد حرب الخليج الثانية 1991 وتفاقم هذه الازمة بشكل مضطرد بعد عام 2003.

إلى جانب ذلك، يعاني قطاع الطاقة الكهربائية من مشكلات مستعصية تتعلق بالصيانة الدورية وتجديد الاسلاك الناقلة للطاقة التي يعاني العراق بسببها من ضياع تتعدى نسبته 30 إلى 50 في المائة، إضافة إلى الفساد المالي والإداري في عموم مؤسسات الدولة ذات العلاقة.

وبعيدا عن الجوانب الفنية، فهناك ثمة معوقات أخرى مثل سيطرة تنظيم داعش بعد أحداث الموصل 2014 على ما يصل إلى ثلث مساحة العراق وتعطيل تنفيذ مشاريع الدولة عامة طيلة ثلاث سنوات وتعمّد التنظيم تخريب واتلاف الخطوط الناقلة للطاقة وتفكيكها أو تفجيرها هي ومحطات التحويل.

معوقات حل مشكلة قطاع الطاقة الكهربائية:

من بين اهم معوقات إعادة تأهيل قطاع الطاقة الكهربائية والأسباب التي أدت إلى تعطيل تنفيذ البرامج الطموحة التي دأبت الوزارة على طرحها مع تشكيل أي حكومة جديدة بعد عام 2003 مع افتراض توفر الإرادة لتنفيذها، يأتي الفساد في هذا القطاع الذي هو جزء من فساد اكبر يشمل كامل مؤسسات الدولة في مقدمة تلك المعوقات، بالإضافة إلى تعيين وزراء على رأس الوزارة والإدارات الأساسية وفق المحاصصات السياسية بعيدا عن الخبرة والكفاءة.

كما ان العجز المتراكم في ميزانية الدولة حال دائما دون توفير الإمكانيات المالية اللازمة لاجراء إصلاحات جذرية في هذا القطاع الحيوي.

وتغطي إيرادات النفط ما يزيد عن 85 في المائة من العائدات السنوية لخزينة الدولة العراقية، بما فيها ما يصل إلى 80 في المائة من النقد الأجنبي.

ويتوقع صندوق النقد الدولي عجزا في الموازنة العامة بما يعادل 23.3 في المائة، أي ما يعادل 40 مليار دولار، من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، وبارقام متقاربة يتوقع البنك الدولي ان يصل عجز الموازنة إلى 19 في المائة بحلول نهاية العام ما سيؤثر على حجم التخصيصات لقطاع الطاقة الكهربائية. بلغ إنتاج الطاقة الكهربائية مطلع العام 2020 في عموم العراق ما بين 13500 إلى 14500 ميغاواط.

وتشير تقارير إلى حاجة العراق إلى 10000 ميغاواط إضافية من الكهرباء بتكلفة تصل إلى 15 مليار دولار ليصل إلى عتبة كفاية الحاجة الفعلية البالغة 29000 ميغاواط حيث أنتج ما معدله 19000 ميغاواط عام 2019.

ووفق ما تنشره وزارة الكهرباء العراقية، فان الوزارة بحاجة إلى إعادة تأهيل شبكة الكهرباء في عموم العراق التي تولد نحو 15000 ميغاواط من حجم الطلب المقدر عام 2018 بحوالي 24000 ميغاواط يرتفع في أيام الصيف الحارة إلى 30000 ميغاواط.

وهناك نسبة ضياع في الكهرباء ما بين 30 إلى 50 في المائة بسبب أنظمة نقل امدادات الكهرباء وشبكات التوزيع التي تعاني من عدم تجديد بنيتها التحتية وغياب الصيانة الدورية لها، وهي تقريبا أكثر من ضعف معدل الخسائر المعتاد عالميا في شبكات الامداد التي تصل إلى 22.5 في المائة.

ولعدم وجود امدادات حكومية كافية لسد احتياجات المواطنين اليومية، اعتمد العراقيون على مشغلين محليين يمتلكون مولدات تعمل بزيت الوقود “الديزل” بمعدل إنفاق بلغ اكثر من 4 مليارات دولار خلال عام 2018 بما يشكله من هدر مالي وإضرار بالبيئة، إضافة إلى ان هذا الانفاق يعادل ميزانية وزارة الكهرباء السنوية.

وفرة الغاز الطبيعي في قلب المشكلة:

احد ابرز الأسباب واهمها في قلة امدادات الطاقة الكهربائية قياسا إلى الحاجة الفعلية هو نقص كميات الغاز الطبيعي اللازمة لتشغيل محطات انتاج الكهرباء التي لا تزال تعمل بنسبة لا تصل إلى 60 في المائة من قدراتها الإنتاجية بتصاميمها الأساسية المعتمدة.

والعراق هو ثاني اكبر منتج للنفط في دول أوبك بعد السعودية ولأسباب تتعلق بتردي أداء القطاع النفطي، فانه لا يزال يستورد الغاز من إيران لتشغيل محطات توليد الطاقة الكهربائية بالإضافة إلى استيراده كميات من إمدادات الكهرباء.

وتشير تقديرات البنك الدولي إلى حوالي 16 مليار متر مكعب من الغاز المرتبط باستخراج النفط أحرقت في عام 2015. ويمكن لتقليل احراق الغاز ان يوفر 5.2 مليار دولار على مدى اربع سنوات (2018 إلى 20200) إضافة إلى ما يوفره من كميات لازمة لتشغيل محطات التوليد. إلى جانب الهدر في احراق الغاز وعدم الاستفادة منه لسد احتياجات العراق، يدفع العراق 11.23 دولارا في مقابل كل الف قدم مكعب (28.3168 متر مكعب) من الغاز مقارنة بأسعار بلغت 5.42 دولارا دفعتها المانيا لشراء الغاز الروسي مع الاخذ بالحسبان ان إيران والعراق بلدان متجاوران وان تكلفة نقل الغاز لا يمكن مقارنتها بتكلفة نقل الغاز الروسي إلى المانيا.

حاجة العراق إلى الغاز وامدادات الكهرباء من إيران: تشكل واردات الكهرباء اليومية من إيران ما يقرب من 30 في المائة من استهلاك العراق اليومي البالغ 00014 ميغاواط عن طريق الاستيراد المباشر، مع كمية من الغاز تصل إلى 1.25 مليار قدم مكعب (35.396.044 متر مكعب) عبر خط انابيب يغذي ثلاث محطات لانتاج الطاقة الكهربائية في محافظتي بغداد وديالى. وفي اخر التقارير الإحصائية السنوية لوزارة الكهرباء لعام 2018، استورد العراق من إيران ما مجموعه 4.678.144 ميغاواط/ساعة عبر أربعة خطوط ناقلة للطاقة الكهربائية تمر من محافظات البصرة والعمارة وبواقع خطين من ديالى.

والى جانب ذلك يحتاج العراق إلى الغاز الإيراني كوقود لمحطات التوليد ولاستخدامات أخرى.

ومنذ عام 2018 اصبح العراق يستورد ما يزيد عن 28 مليون متر مكعب من الغاز الإيراني يوميا لتغذية محطات انتاج الطاقة الكهربائية والاستخدامات الأخرى.

ووفقا لتقرير “المراجعة الإحصائية للطاقة العالمية لعام 2018” الذي صدر أوائل العام 2019، فان العراق استورد نحو 4.36 مليون متر مكعب من الغاز يوميا خلال عام 2018.

خطوات الحكومة لمعالجة مشكلة الطاقة الكهربائية:

يمتلك العراق أربعة أنواع من محطات توليد الطاقة الكهربائية، محطات توليد بخارية وأخرى غازية وأخرى كهرومائية تعتمد على السدود المائية ورابعة تعتمد على زيت الوقود (الديزل).

اتخذت الدولة العراقية إجراءات عدة لاعادة تأهيل القطاع الكهربائي بتوقيع عدد من الاتفاقيات مع كبريات شركات الكهرباء العالمية مثل شركة “سيمنز” بقيمة 10 مليارات دولار، وجنرال اليكتريك بقيمة 15 مليار دولار لاصلاح البنية التحتية للطاقة الكهربائية وتعزيز قدرات محطات التوليد وإنتاج ما يزيد على 24000 ميغاواط في مرحلة السنوات الخمس المقبلة. ووفقا لموقع معهد “العراق للطاقة” فان هناك حاجة إلى 18 مليار دولار بحلول عام 2025 لتأسيس بنية تحتية قادرة على بلوغ العراق طاقة إنتاجية من الغاز بمعدل 3200 مليون قدم مكعب يوميا (90.613 متر مكعب) لتغطية الطلب على الكهرباء البالغ 37000 ميغاواط، إضافة إلى نحو 35 مليار دولار لاعادة تأهيل كامل البنية التحتية لقطاع انتاج الطاقة الكهربائية وتوزيعها ونقلها، وهو ما يستدعي البحث عن مستثمرين أجانب في ظل واقع تراجع أسعار النفط في السوق العالمية والعجز المتراكم في الميزانية العامة وتضخم الدين الخارجي مع عدم وجود خطط بديلة لتنويع مصادر الإيرادات التي تعتمد بشكل كامل على إيرادات النفط.

لم تتمكن الحكومات العراقية من إيجاد بديل عن امدادات الكهرباء والغاز الإيرانيين على الرغم من تشجيع الولايات المتحدة على البحث في خيارات أخرى مع السعودية والأردن والكويت، وتركيا أيضا.

ففي يوليو/تموز 2018، أعلنت السعودية عن استعدادها للتعاون في خطة إقليمية لتزويد العراق بالكهرباء بسعر 21 دولارا لكل ميغاواط/ساعة، أي بربع تكلفة الاستيراد من إيران، وتوفير الغاز الطبيعي بأسعار تنافسية أقل من أسعارها في السوق العالمية لكن ابرام مثل هذا الاتفاق بحاجة إلى إرادة سياسية يفتقر اليها العراق وقرار مستقل بعيد عن نفوذ إيران التي منعت توقيعه.

قد يكون توقيع العراق على هامش منتدى الطاقة العراقي الذي انعقد ببغداد في سبتمبر/أيلول 2019 اتفاقية الربط الكهربائي للشبكة العراقية مع دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بداية صحيحة لتجاوز العقبات التي تعترض توفير الغاز وامدادات الكهرباء بديلا عن إيران التي تخضع لعقوبات أمريكية منذ عام 2018 تتطلب تقديم العراق طلبات اعفاء دورية من الولايات المتحدة لمواصلة استيراد الكهرباء والغاز من إيران.

تبلغ التكلفة التخمينية لمشروع الربط الخليجي 220 مليون دولار لبناء خط نقل الطاقة الكهربائية بطول يزيد عن 300 كيلومترا من الكويت إلى ميناء الفاو في محافظة البصرة اقصى جنوب العراق لتزويدها بنحو 500 ميغاواط من الطاقة بكلف تشير تقارير انها أقل بنسبة 15 في المائة مقارنة باستيراد نفس الكمية من الكهرباء من إيران.

وتدعم الولايات المتحدة مشروع ربط الشبكة الكهربائية العراقية مع دول مجلس التعاون الست لتوريد الكهرباء إلى العراق مع التزامها بتسهيل هذه المهمة وتقديم الدعم عند الحاجة.

ما الذي على الحكومة العراقية ان تفعله:

سيكون على الحكومة العراقية السعي الجاد لجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية لتنمية وانعاش القطاع الاقتصادي بشكل عام، والتغلب على المعوقات التي تحول دون تحويل العراق إلى بيئة طاردة للاستثمارات الأجنبية المتمثلة في شيوع الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة وهشاشة الأوضاع الأمنية جراء عمليات تنظيم داعش أو “شبه غياب” لسلطة الدولة لصالح سيطرة الفصائل المسلحة على الملف الأمني في محافظات عدة، إضافة إلى عدم جدية الحكومات في إجراء إصلاحات جذرية في القطاع الاقتصادي مثل تطوير وتنمية القطاع الخاص.

هناك حاجة للتحقق من دقة قياسات استهلاك المشتركين ووضع صيغ قياس بديلة تعتمد على الأنظمة التقنية المتطورة ومتابعة الجهات الرقابية في الدولة لعملية استيفاء أجور استخدام الطاقة الكهربائية من المشتركين أو أصحاب المعامل والمصانع والدوائر الحكومية واعتماد نظام التعريفات التصاعدية لتشجيع المستفيدين على تخفيف استهلاكهم من الكهرباء ووقف الهدر الناجم عن تدني قيمة المبالغ المدفوعة قياسا إلى الاستهلاك.

سيكون على العراق وضع خطط طموحة وعملية للاتجاه نحو الطاقة النووية، وكذلك الاستفادة من وفرة الطاقة الشمسية والرياح كمصادر للطاقة المتجددة كسبيل أمثل لتنويع مصادر انتاج الكهرباء وبالتالي توفير مبالغ ضخمة من الانفاق على قطاع الكهرباء وتحويله إلى قطاعات أخرى للاستفادة منها.

لا يمكن تجاوز ازمة قطاع الكهرباء دون توظيف أصحاب الخبرات والكفاءات في مواقع المسؤولية والابتعاد الكلي عن المحاصصات السياسية التي تفرضها الأحزاب والكتل السياسية دون مراعاة لجوانب الخبرة والكفاءة بل والنزاهة أيضا لتخليص هذا القطاع من الفساد المالي والإداري.

الشروع ببرامج توعية على مستوى المجتمعات المحلية لترشيد الاستهلاك ومع احتمالات عدم نجاعة مثل هذه الحملات، فأرى ان يكون اعتماد خطة جديدة تتلخص في استبدال العدادات الحالية إلى عدادات متطورة تعتمد على بطاقة الدفع المسبق لمنح المستفيد فرصة التحكم بنفقاته من جهة، ومن جهة أخرى تحصيل كامل استحقاقات وزارة الكهرباء من تقديمها هذه الخدمة.

ولا يمكن إغفال حقيقة ان هشاشة الأوضاع الأمنية في العراق تعد بيئة طاردة للاستثمارات الأجنبية اللازمة لقطاع الطاقة لتعويض نقص الانفاق من الميزانية العامة التي تعاني عجزا متراكما ومتوقع ان تزداد نسبته نتيجة تراجع أسعار النفط في السوق العالمية حيث يعتمد العراق كليا على ايرادته.