الوباء والنظام السياسي

Related Articles

كيف يتنبأ فوكاياما مستقبل الانظام السياسي العالمي ومستقبل الولايات المتحدة والقوى العظمى في ظل جائحة وباء كورونا؟

 

الوباء والنظام السياسي

..انه يؤثر على الدولة 

احدث مقالات فرانسس فوكوياما

مجلة Foreign Affairs

يوليو/اغسطس 2020

ترجمة بتصرف: د.رنا خالد  المدير التنفيذي ورئيس الباحثين منتدى صنع السياسات-لندن

IFPMC-LONDON

غالباً ما تترتب على الأزمات الكبرى عواقب كبيرة وغيرمتوقعة. فلقد حفز الكساد الكبير الانعزالية والقومية والفاشية والحرب العالمية الثانية، لكنه أدى أيضاً إلى ما يسمى (بالصفقة الجديدة)*، وصعود الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية، وفي نهاية المطاف إنهاء الاستعمار. كذلك أسفرت هجمات الحادي عشر من سبتمبر عن التدخلات العسكرية الامريكية الفاشلة، وعن صعود إيران وأشكال جديدة من التطرف الإسلامي.  ايضاً ولدت الأزمة المالية في عام 2008 عن صعود تيار الشعوبية التي استطاعت ان توثر في اختيار القادة في جميع أنحاء العالم. وسوف يتتبع المؤرخون في المستقبل الآثار الكبيرة لجائحة كورونا الحالية ويبدوا ان التحدي الاكبر الذي يواجه الباحثين اليوم هو كيفية التنبؤ المسبق بها.

ومن الواضح كان بعض البلدان أفضل من غيرها في التعامل مع الأزمة حتى الآن. ويبدوا إنها ليست مسألة نوع النظام السياسي. لقد كان أداء بعض الديمقراطيات جيداً، ولكن البعض الآخر لم يكن كذلك، وينطبق الشيء نفسه على الأنظمة الاستبدادية. وكانت العوامل المسؤولة عن نجاح الاستجابات الجائحة هي قدرة الدولة، والثقة الاجتماعية، والقيادة. وقد أدت البلدان التي لديها العوامل -الثلاثة الاكثر اهمية- التي هي :جهاز دولة مختص، وحكومة يثق بها المواطنون ويستمعون إليها، وقادة فعّالون – أداءً مثيراً للإعجاب، مما حدّ من الأضرار التي لحقت بهم. في حين ان البلدان التي تعاني من اختلال الدول، أو المجتمعات المستقطبة، أو ضعف القيادة، كان ادائها سيئاً، الأمر الذي جعل مواطنيها واقتصاداتها مكشوفة ومعرضة للخطر.

الحقيقة انه كلما تطورت الابحاث COVID-19 ، كلما بدا أن الأزمة ستكون طويلة ، تقاس بالسنوات بدلاً من أرباع. ويبدو الفيروس أقل فتكا ، ولكنه شديد العدوى وغالبا ما ينتقل بدون أعراض. إن الإيبولا قاتلة للغاية ولكن من الصعب اللحاق بها؛ الضحايا يموتون بسرعة، قبل أن يتمكنوا من تمريره. COVID-19 هو العكس، مما يعني أن الناس لا يميلون إلى أخذ الأمر على محمل الجد كما ينبغي. لهذا سوف تستمر الجائحة تنتشر على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، و تسبب أعداد كبيرة من الوفيات. والواقع لن تكون هناك أي لحظة يمكن فيها للبلدان أن تعلن انتصارها الكامل على الوباء .بالمقابل فان الاقتصادات تفتح ببطء وبشكل مؤقت بسبب موجات لاحقة من العدوى. ويبدو أن الآمال في تحقيق انتعاش على شكل حرف V متفائلة إلى حد كبير. على الأرجح هو L مع ذيل طويل التقويس صعودا أو سلسلة من WS. إن الاقتصاد العالمي لن يعود إلى أي شيء مثل حالته قبل “كوفيد” في أي وقت قريب.

ومن الناحية الاقتصادية، فإن الأزمة التي طال أمدها ستعني المزيد من الإخفاقات والدمار في قطاع الأعمال لصناعات مثل مراكز التسوق، وسلاسل البيع بالتجزئة، والسفر. وقد ارتفعت مستويات تركز السوق في الاقتصاد الأميركي باطراد لعقود من الزمان، وسوف يدفع الوباء هذا الاتجاه إلى أبعد من ذلك. فقط الشركات الكبيرة ذات الجيوب العميقة ستكون قادرة على الخروج من العاصفة ، مع عمالقة التكنولوجيا الذين يحصلون على معظمها ، حيث تصبح التفاعلات الرقمية أكثر أهمية من أي وقت مضى. وقد تكون العواقب السياسية أكثر أهمية. ويمكن استدعاء السكان إلى أعمال بطولية من التضحية بالنفس الجماعي لفترة من الوقت، ولكن ليس إلى الأبد. إن استمرار انتشار الوباء إلى جانب فقدان الوظائف بشكل كبير، والركود الطويل الأمد، وعبء الديون غير المسبوق، سوف يخلق حتماً توترات تتحول إلى رد فعل سياسي عنيف – ولكن ضد من لم يتضح بعد.

وسوف يستمر التوزيع العالمي للقوة في التحول شرقاً، لأن شرق آسيا كان أفضل في إدارة الوضع من أوروبا أو الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن الوباء نشأ في الصين وأن بكين غطته في البداية وسمحت له بالانتشار، فإن الصين سوف تستفيد من الأزمة ولو بصورة نسبية. ورغم ان أداء العديد من الحكومات كان ضعيفاً في البداية وحاولت تغطية الأمر أيضاً بشكل أكثر وضوحاً وعواقب أكثر فتكاً بمواطنيهم. الا ان بكين  تمكنت من استعادة السيطرة على الوضع وان تنتقل إلى التحدي التالي الا وهو اعادة فتح المؤسسات الاقتصادية، مما أعاد اقتصادها إلى التعافي بسرعة وبشكل مستدام.

وعلى النقيض من ذلك، لم تكن استجابة الولايات المتحدة لتحديات ومشاكل كورونا متناسبة مع قدرات ومكانة القوة الاقتصادية والسياسية الاكبر وشهدت تراجعًا كبيرًا في مكانتها. تمتلك الولايات المتحدة قدرات هائلة ، وقد بنت سجلاً حافلاً من الأزمات الوبائية السابقة، لكن مجتمعها الحالي الذي يتسم بالاستقطاب الشديد والقيادة غير الكفؤ شلت الدولة من العمل بفعالية. وقد أجج الرئيس الانقسام بدلاً من تعزيز الوحدة، وتسييس توزيع المساعدات دفع المسؤولية إلى الحكام المحليين لاتخاذ قرارات رئيسية مع تشجيع الاحتجاجات ضدهم لحماية الصحة العامة، وهاجم المؤسسات الدولية بدلاً من حشدها. وبوسع العالم أن يشاهد عبر شاشات التلفزيون  الفرق بين اداء الولايات المتحدة واداء الصين.

وعلى مدى السنوات القادمة، قد يؤدي هذا الوباء إلى انحدار نسبي في الولايات المتحدة، واستمرار تآكل النظام الدولي الليبرالي، وعودة الفاشية في جميع أنحاء العالم. كما يمكن أن يؤدي إلى ولادة جديدة للديمقراطية الليبرالية، وهو النظام الذي أربك المتشككين عدة مرات، وأظهر قوى ملحوظة من المرونة والتجديد. ستظهر عناصر من كلا الرؤيتين، في أماكن مختلفة. وللأسف، ما لم تتغير الاتجاهات الحالية بشكل كبير، فإن التوقعات العامة قاتمة.

تصاعد الفاشية

ومن السهل تصور النتائج السلبية لوباء كوفيد-19 على طبيعة الانظمة السياسية في العالم. فالقومية والانعزالية وكراهية الأجانب والهجمات على النظام العالمي الليبرالي ما فتئت تتزايد لسنوات، والاتجاه نحو الفاشية يتسارع مع تصاعد الوباء. لقد استغلت الحكومات في هنغاريا والفلبين الأزمة لإعطاء نفسها سلطات الطوارئ، مما أبعدها عن الديمقراطية. وقد اتخذت بلدان أخرى كثيرة، بما فيها الصين والسلفادور وأوغندا، تدابير مماثلة. وظهرت حواجز في كل مكان، بما في ذلك في قلب أوروبا، وبدلاً من التعاون البناء من أجل مصلحتها المشتركة، تحولت البلدان إلى الداخل، وتصارعت مع بعضها البعض، وجعلت من منافسيها كبش فداء سياسي لفشلهم.

إن صعود النزعة القومية سيزيد من إمكانية نشوب صراع دولي. وقد يرى القادة أن المعارك مع الأجانب هي عوامل إلهاءات سياسية محلية مفيدة، أو قد يغريهم ضعف أو انشغال خصومهم ويستغلون الوباء لزعزعة استقرار الأهداف المفضلة أو خلق حقائق جديدة على أرض الواقع. ومع ذلك، ونظرا لاستمرار السيطرة الدولية على الأسلحة النووية والتحديات المشتركة التي تواجه جميع الأطراف الرئيسية، فإن الاضطرابات الدولية أقل احتمالا من الاضطرابات الداخلية.

وستتضرر بشدة البلدان الفقيرة التي تزدحم فيها المدن ونظم الصحة العامة الضعيفة.  في مثل تلك البلدان ليس فقط التباعد الاجتماعي يعد مشكلة ولكن حتى ابسط اسس النظافة العامة تعد مشكلة حيث ان العديد من المواطنينلا يحصلون بانتظام على المياه النظيفة. وكثيراً ما جعلت الحكومات الأمور أسوأ وليس أفضل – سواء عن طريق التصميم، أو بالتحريض على التوترات الطائفية وتقويض التماسك الاجتماعي، أو ببساطة عدم الكفاءة. فقد زادت الهند، على سبيل المثال، من ضعفها بإعلانها إغلاقاً مفاجئاً على مستوى البلاد دون التفكير في العواقب المترتبة على عشرات الملايين من العمال المهاجرين الذين يحتشدون في كل مدينة كبيرة. وذهب الكثيرون إلى منازلهم الريفية، فنشروا المرض في جميع أنحاء البلد؛ وبمجرد أن عكست الحكومة موقفها وبدأت في تقييد الحركة، وجد عدد كبير من أنفسهم محاصرين في المدن دون عمل أو مأوى أو رعاية.

وقد كان النزوح الناجم عن تغير المناخ أزمة متصاعدة ببطئ في عالم الجنوب.لكن وباء كورونا سيضاعف من اثار هذا النزوح مما يقرب أعدادا كبيرة من السكان في البلدان النامية من حافة الكفاف. وقد هددت الأزمة آمال مئات الملايين من الناس في البلدان الفقيرة الذين كانوا المستفيدين من عقدين من النمو الاقتصادي المستدام. وسوف يزداد الغضب الشعبي، كما أن التوقعات المتزايدة للمواطنين سوف تكون في نهاية المطاف وصفة كلاسيكية للثورات. سوف يسعى اليائسون إلى الهجرة، وسوف يستغل القادة الديماغوجيون الوضع للاستيلاء على السلطة، وسوف يغتنم الساسة الفاسدون الفرصة لسرقة ما في وسعهم، وسوف تضيق العديد من الحكومات الخناق أو تنهار. وفي الوقت نفسه، فإن موجة جديدة من محاولات الهجرة من الجنوب العالمي إلى الشمال سوف تقابل بتعاطف أقل ومقاومة أكبر هذه المرة، حيث يمكن اتهام المهاجرين الآن بشكل أكثر مصداقية بجلب المرض والفوضى.

وأخيرا ، فإن مظاهر ما يسمى البجع الأسود * من المرجح ان تزدادفي العالم على نحو متزايد. ولقد عززت الأوبئة هذه الرؤى المروعة،اضافة الى صراع والطوائف، والأديان الجديدة التي تؤدي الى دائرةغير منتهية من التوترات. وفي الواقع، يمكن النظر إلى الفاشية على أنها طائفة من هذه الطوائف، نتجت من العنف والتفكك الناجمين عن الحرب العالمية الأولى وما تلاها. كانت نظريات المؤامرة تزدهر في أماكن مثل الشرق الأوسط، حيث كان الناس العاديون غير مُهينين ويشعرون بأنهم يفتقرون إلى التمثيل. واليوم، انتشرت على نطاق واسع في جميع أنحاء البلدان الغنية أيضاً، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى البيئة الإعلامية الممزقة الناجمة عن الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن المرجح أن توفر المعاناة المستمرة مادة غنية للديماغوجيين الشعبويين لاستغلالها.

ربما الديمقراطية المرنة

مع ذلك، لم يسفر الكساد الكبير عن الفاشية فحسب، بل أعاد أيضاً تنشيط الديمقراطية الليبرالية.ربما الوباء ادى الى بعض النتائج السياسية الإيجابية أيضاً. في الواقع فان الامر قد احتاج الى صدمة خارجية ضخمة لإخراج الأنظمة السياسية المتصلبة من الركود وتهيئة الظروف للإصلاح البنيوي الذي طال انتظاره، ومن المرجح أن يتكرر هذا النمط مرة أخرى، على الأقل في بعض الأماكن.

التعامل العملي مع الوباء جاء لصالح العلماء و المحترفين والخبراء ,بالمقابل تم كشف الشعبويين والحكومات غير الكفوءة بسهولة. وينبغي أن يؤدي ذلك في نهاية المطاف إلى إحداث تأثير مفيد في الاختيار، ومكافأة الساسة والحكومات التي ابلت بلاءً حسناً ومعاقبة أولئك الذين فشلوا في ادارة الازمة. فقد حاول جير بولسونارو البرازيلي، الذي  خدع المؤسسات الديمقراطية في بلاده في السنوات الأخيرة،حاول ان يستعمل اساليب المراوغة للخروج من الازمة ، وهو الآن يتخبط ويرأس كارثة صحية. حاول فلاديمير بوتين في روسيا التقليل من أهمية الوباء في البداية، ثم زعم أن روسيا كانت تحت السيطرة، لكنه ارغم على تغيير خطابه مع انتشار COVID-19 في جميع أنحاء البلاد. الحقيقة لقد كانت شرعية بوتن تضعف بالفعل قبل الأزمة، وربما سارع انتشار الوباء من ازمته الداخلية.

سلط وباء كورونا الضوء على المؤسسات القائمة في كل مكان، كاشفا عن أوجه قصورها وضعفها. و بسبب الأزمة قد تعمقت الفجوة بين الأغنياء والفقراء، من الشعوب والبلدان على حد سواء، ، وستزداد خلال فترة الركود الاقتصادي الذي يقترب منه العالم بسرعة. ولكن إلى جانب المشاكل، كشفت الأزمة أيضاً عن قدرة الحكومة على تقديم الحلول، بالاعتماد على الموارد الذاتية في هذه العملية. إن الشعور الذي ساد في كثير من الدول والذي يسمى بـ “الاتحاد معاً” يمكن أن يعزز التضامن الاجتماعي ويدفع باتجاه المزيد مبادرات الحماية الاجتماعية السخية  في المجتمعات، تماماً كما حفزت المعاناة الوطنية المشتركة في الحرب العالمية الثانية والكساد نحو  نمو دول الرعاية الاجتماعية في العشرينات والثلاثينات من القرن العشرين.

قد يضع هذا حداً للأشكال المتطرفة من الليبرالية الجديدة، و إيديولوجية السوق الحرة حسب دراسات رواد عالم الاقتصاد في جامعة شيكاغو مثل غاري بيكر وميلتون فريدمان وجورج ستيغلر.  في الواقع انه خلال الثمانينيات، قدمت مدرسة شيكاغو تبريراً فكرياً لسياسات الرئيس الأميركي رونالد ريغان ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، اللذين اعتبرا الحكومة الكبيرة والتدخلية عقبة أمام النمو الاقتصادي والتقدم البشري. وفي ذلك الوقت، كانت هناك أسباب وجيهة لخفض العديد من أشكال الملكية والتنظيم الحكوميين. ولكن الحجج تصلبت حول الحرية الاقتصادية، مقابل ترسيخ العداء لتدخل الدولة في جيل من المثقفين المحافظين، وخاصة في الولايات المتحدة.

اليوم ونظراً لأهمية اتخاذ الدولة إجراءات قوية لإبطاء انتشار الوباء، فمن الصعبالذهاب مع مقولة  ريغان في خطابه الشهير، إن “الحكومة ليست الحل لمشكلتنا.. الحكومة هي المشكلة”. كما لن يتمكن أي شخص من تقديم حجة معقولة مفادها أن القطاع الخاص والأعمال الخيرية يمكن أن تحل محل دولة مختصة أثناء حالة الطوارئ الوطنية. في أبريل/ نيسان، أعلن جاك دورسي، الرئيس التنفيذي لشركة تويتر، أنه سيساهم بمليار دولار في الإغاثة من COVID-19، وهو عمل خيري استثنائي. وفي الشهر نفسه، افرد الكونغرس الأميركي مبلغ 2.3 تريليون دولار لدعم الشركات والأفراد الذين تضرروا من هذا الوباء. وقد تبقى معاداة الدولة بين المحتجين الذين تم إغلاقهم، ولكن استطلاعات الرأي تشير إلى أن الغالبية العظمى من الأميركيين يثقون في نصائح الخبراء الطبيين الحكوميين في التعامل مع الأزمة. ويمكن أن يزيد ذلك من الدعم المقدم للتدخلات الحكومية لمعالجة المشاكل الاجتماعية الرئيسية الأخرى.

وقد تؤدي الأزمة في نهاية المطاف إلى تجديد التعاون الدولي. ففي حين يلعب القادة الوطنيون لعبة اللوم، يقوم العلماء ومسؤولو الصحة العامة في جميع أنحاء العالم بتعميق شبكاتهم واتصالاتهم. وإذا أدى انهيار التعاون الدولي إلى كارثة وحكم عليه بالفشل، فإن الحقبة التي بعد ذلك يمكن أن تشهد التزاما متجددا بالعمل على نحو متعدد الأطراف من أجل النهوض بالمصالح المشتركة.

لا ترفعوا سقف امالكم

لقد كان الوباء اختبارا عالميا للتوتر السياسي. وسوف تمر البلدان ذات الحكومات الشرعية القادرة بشكل جيد نسبياً على ان تتبنى إصلاحات تجعلها أقوى وأكثر مرونة، مما يعزز من تفوقها في المستقبل. من جهة ثانية، سوف تواجه البلدان ذات الحكومات الهشة أو القيادة الضعيفة المشاكل، حيث أنها سوف تعاني من الركود، إن لم يكن الفقر وعدم الاستقرار. المشكلة هي أن المجموعة الثانية عددها اكبر بكثير من المجموعة الاولى.

من سوء الحظ، كاناختبار التوتر صعب جداً بحيث ان عدد قليل  الصعب جدا ومن المرجح ان ينجح فيه عدد قليل من الدول. ولمعالجة المراحل الأولى من الأزمة بنجاح، تحتاج البلدان ليس فقط إلى دول قادرة وموارد كافية، بل أيضا إلى قدر كبير من التوافق الاجتماعي والقادة المؤهلين الذين يتمتعون بدرجة عالية من الثقة. وقد لبّت كوريا الجنوبية هذه الحاجة، التي فوضت إدارة الوباء إلى بيروقراطية صحية مهنية، ومن جانب ألمانيا فقد تولت أنجيلا ميركل ادارة الازمة بنجاح.اما الحالة الاكثر شيوعاً فقد كانت الحكومات التي فشلت في ادارة المراحل الاولية لازمة كورونا بشكل أو بآخر. وبما أنالمراحل المتبقية من الازمة ستكون اصعب فان توتر الشعوب سوف يستمر، مما يجعل التفاؤل الأوسع نطاقاً صعباً.

وهناك سبب آخر للتشاؤم وهو أن السيناريوهات الإيجابية تفترض نوعاً من الخطاب العام العقلاني والتعلم الاجتماعي. بيد أن الصلة بين الخبرة التكنوقراطية والسياسة العامة أضعف اليوم مما كانت عليه في الماضي، عندما كانت النخب تتمتع بسلطة أكبر. إن إضفاء الطابع الديمقراطي على السلطة التي حفزتها الثورة الرقمية قد أدى إلى ان تتساوى السلاسل المعرفية الهرمية مع التسلسلات الهرمية الأخرى، وأصبح صنع القرار السياسي مدفوعاً الآن “بالثرثرة المسلحة”* في كثير من الأحيان. وهذا لا يشكل بيئة مثالية للفحص الذاتيا الجماعي البَنّاء. وقد تظل بعض النواحي السياسية غير منطقية لفترة أطول قبل ان يتم حلها.

أكبر عناصر تغير الكفائة-خلال ازمة كورونا- كان الولايات المتحدة. الواقع ان من سوء حظ البلاد أن يكون القائد الأكثر عجزاً وإثارة للخلاف في تاريخها الحديث على رأس السلطة عندما ضربت الأزمة، ولم يتغير أسلوب حكمه تحت الضغط. وبعد أن أمضى فترة ولايته في حالة حرب مع الدولة التي يرأسها، لم يتمكن من نشرها بشكل فعال عندما تطلب الوضع ذلك. وبعد أن حكم على أن حظوظه السياسية تكمن في المواجهة والعدائية بدلاً من الوحدة الوطنية. استخدم الأزمة لانتقاء المعارك وزيادة الانقسامات الاجتماعية. إن ضعف الأداء الأميركي أثناء الوباء له عدة أسباب، ولكن أهمها كان الزعيم الوطني الذي فشل في القيادة.

اذا مُنح الرئيس فترة ولاية ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني، فإن فرص عودة الديمقراطية أو النظام الدولي الليبرالي على نطاق أوسع سوف تنخفض. ولكن أياً كانت نتيجة الانتخابات، فمن المرجح أن يبقى الاستقطاب العميق في الولايات المتحدة قائماً. إن إجراء انتخابات أثناء انتشار وباء ما سيكون صعباً، وسوف يحفز الخاسرين الساخطين على تحدي الشرعية. وحتى إذا أخذ الديمقراطيون البيت الأبيض و الكونغرس، فإنهم سيرثون بلداً مجهدا،والمطالب الشعبية باتخاذ اجراءات عاجلة سوف تؤدي الى جبال من الديون سوف تكون المؤسسات الوطنية والدولية ضعيفة ومُترنحة بعد سنوات من التجاوزات، وسوف يستغرق إعادة بنائها سنوات – إذا كان ذلك لا يزال ممكناً على الإطلاق.

اخيراً، ومع مرور المراحل الاكثر خطورة ومأساة،يتجه العالم نحو مرحلة طويلة من الركود.سوف تتمكن بعض الدول من الخروج منها بصورة اسرع من غيرها. الحروب الدولية غير مرجحة،وفي الماضي استطاعت الانظمة الراسمالية والولايات المتحدة ان تثبت قدرتها على التغيير والتكيف. . ولكنها ربما سوف تحتاج إلى سحب أرنب من القبعة مرة أخرى،بمعنى اخر القيام بخطوات غير متوقعة وشبه مستحيلة لتغيير مجرى الامور لصالحها من جديد.

*الصفقة الجديدة :هو مشروع يتضمن مجموعة من الاصلاحات الاقتصادية التي تمت في زمن الرئيس الامريكي روزفلت والتي ادت الى تنشيط الاقتصاد الامريكي وتلافي انهيار الاقتصاد على اثر الكساد الكبير الذي ضرب الولايات المتحدة  في ثلاثينيات القرن الماضي.(المترجم)

*البجع الاسود :مصطلح يطلق على الاحداث المفاجئة غير المتوقعة والتي تقلب كل المعادلات. (المترجم)

* الثرثرة المسلحة : weaponized babble يقصد به استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح للتشويش على النقاشات السياسية والسيطرة على الراي العام من قبل القوى اليمينية المتشددة.(المترجم)

https://www.foreignaffairs.com/articles/world/2020-06-09/pandemic-and-political-order

Comments

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Popular stories