الركود الاقتصادي القادم – المساحة غير المرسومة لما بعد الأزمة

Related Articles

الركود الاقتصادي القادم – المساحة غير المرسومة لما بعد الأزمة

أ.د هجير محمد امين 

الخبيرة الاقتصادية وعميدة كلية اقتصاديات الاعمال سابقاً

عرض بتصرف :
The Coming Coronavirus Recession
March 17, 2020
https://www.foreignaffairs.com/…/coming-coronavirus-recessi…
The Coronavirus Could Reshape Global Order
March 18, 2020
https://www.foreignaffairs.com/…/coronavirus-could-reshape-…
صار من المؤكد أن تشهد سنة 2020 دخول الاقتصاد العالمي في أزمة كساد واسعة – قد تأخذ منحى مفاجئ و حاد – نتيجة لتداعيات استشراء وباء Covid-19 . و أيا ما ستكون عليه فاعلية الاستجابة لدى صناع السياسات الاقتصادية، و الشركات و المستهلكين في انحاء العالم ، من حيث تأثيرها علىالأمد المتوقع للركود ، فأن آثاره على ما يبدو ستمتد لسنوات قادمة ان لم يكن لعقود.
كانت معظم التوقعات التي تناولت تقدير نموالاقتصاد العالمي لسنة 2020 قد تنبأت بنمو مستقر يأخذ بالتصاعد على امتداد العام ، اذ تراوحت توقعات صندوق النقد الدولي حول حدود 3.3 % بالمقارنة مع 2.9 % عام 2019 . و قد استند جو التفاؤل الذي ساد التوقعات الى مجموعة من الأسباب ، منها الشروع في ” المرحلة الأولى ” من اتفاقية التجارة الموقعة بين الولايات المتحدة و الصين ، و انخفاض مستوى الارتباك و عدم اليقين المرتبط بخروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي ” Brexit “،و ارتفاع مستويات الانفاق الاستهلاكي خاصة في الولايات المتحدة و المانيا الذي كان من المؤمل منه أن يدفع الشركات الى الاستمرار في مشاريعها الاستثمارية المتأخرة .
الأزمة و انماط التعافي
وحدثت الأزمة باستشراء فايروس كورونا المستجد على امتداد العالم لتتبعه الصدمة الاقتصادية التي تركت الاقتصاديين يتخبطون في توقعاتهم و تقديراتهم و تنبؤاتهم لعام 2020 . فهذه منظمة التعاون و التنمية الأوربية OECD خفضت تقديراتها لمعدل النمو الى النصف من 2.9 % الى 1.5 % و أعلن صندوق النقد الدولي انه سيعلن اعادة تقديراته قريبا”.
و لكن حتى هذه التقديرات بدت متفائلة بالقياس الى المنحى الذي ستأخذه الأزمة ، اذ يبدو ان التقديرات بنيت على التصور الأولي لسياق التعافي من كونه سيتخذ نمط الشكل ( V ) الحاد أي تناقص حاد في الربع الأول يتبعه تزايد حاد في الربع الثاني ، لكن هناك ادراك متزايد اليوم ان نمط التعافي قد يتخذ الشكل ( U ) في أحسن الأحوال ، الأمر الذي يدعو الى اعادة النظر في التقديرات من جديد ، مع الاعتبار الجدي بأن التعافي قد يأخذ الشكل ( L) أو ( I ) أي ان السوق سيأخذ اتجاه مسطح بعد هبوط غير مرن اذا تظافرت و تراكمت الأزمات المالية ، مما يضيف بعدا قاتما آخر للمخاوف التي تسود الاقتصاد العالمي .
جاهزية الاقتصاد العالمي للأزمة الشاملة
قبل استشراء الوباء ، غلب الاعتقاد ان اقتصادات رئيسية ، مثل المانيا ، ايطاليا و اليابان لم تكن على مستوى مناسب من الجاهزية لملاقاة أزمات أخف بكثير من صدمة عالمية مثل جائحة كورونا . في حين ان اقتصادات أخرى كالاقتصاد الصيني و الاقتصاد الامريكي ربما تمتعا بمتانة عضوية في النمو أكثرقدرة على الاستجابة ، لكن حتى زخم هذا النسيج العضوي اتضح انه لم يكن كافيا لتحاشي ارتداد عكسي لمثل هذا النوع من الأزمات .
لقد أنتجت السياسات المغالية في المخاطرة ، مع اتجاه البنوك المركزية لإحكام الكبح المصطنع للتذبذبات المالية ، أنتجت بذور عدم الاستقرار الذي أخذ بالتراكم لسنوات . و اذا لم يكن فيروس كورونا ، فإن أمرا” آخر كان سيكشف هشاشة ” الوضع الطبيعي الجديد the new normal ” الذي أعقب الأزمة المالية الدولية في 2008 .
زخم العاصفة
ان اتساع الأثر لمثل هذا النوع من الصدمات و بالسعة التي أخذها لا يكون في العادة أمرا مألوفا في الاقتصادات المتقدمة ، مثلما يغلب في الدول الفاشلة او الهشة ، او في حالات الكوارث الطبيعية . لكن الارتباك الاقتصادي المفاجئ الذي أشاعه تفشي وباء كورونا عالميا ، كانت له تداعيات قاسية بل مدمرة في بعض الحالات على جانبي العرض و الطلب الكليين .. و لنتأمل مثلا الأثر على صناعة الطائرات – التي تتخذ كمؤشر رئيسي و ليس استثنائي للعديد من القطاعات الأخرى – فهناك الخطر المحتمل من التقاط المرض على متن الطائرات مما أطلق موجة الغاء الرحلات . فضلا عن القرارات التنفيذية المتعلقة باغلاق الحدود و اجازات العاملين و تحديد المدفوعات للمجهزين ، كل هذا سيطلق ما يعرف لدى الاقتصاديين بالاثر التضاعفي العكسي أو الأثر العكسي للمضاعف negative multiplier effect دافعا بالطلب الى الانخفاض بشكل متسارع .
الأخبار السيئة … أولا”
من الطبيعي أن تكون الأولية للحياة .. فالموجة الأساسية من رد الفعل أتجهت للسيطرة على الوضع الصحي و ستبقى على هذا الاتجاه الى ان تظهر نقطة ما تؤذن بامكانية التخفيف و التراجع . لكن من الناحية الاقتصادية هذه الاجراءات ستفاقم الوضع الاقتصادي ، فاجراءات التباعد الاجتماعي social distancing ، و العزل و التفريق تتعارض مع طبيعة متطلبات النمو و الاستخدام و التشغيل و الاستقرار المالي . بل ان الاقتصادات المتقدمة و حكوماتها أصبحت مبنية اليوم على أسس التداخل التواصلي و الاعتماد الاقتصادي المتبادل على الصعيد المحلي و العالمي على حد سواء .. هذا ما بشرت به العولمة و سهلته ادواتها و بُنيتها المؤسسية و التكنولوجية .
إن الاستجابة الإجرائية للأزمة التي أخذت هذا المنحى التحفظي الواسع و المشروع ستنقل الأثر من قطاع اقتصادي الى آخر و النتيجة لن تقتصر على اتجاه تراجعي عن العولمة deglobalization و الاقليمية deregionalization بل ربما إغلاق اقتصادي واسع النطاق على المستوى المحلي و الدولي .
قدر تعلق الأمر بنشاط القطاع الخاص و مؤسساته و شركاته، لا بد و أن الضربة ستطال تقارير الدخل و الموازين المالية من كل جوانبها ، و سيجري تخطي كل خطط التحسب و التحوط المرسومة للصدمات و ستضطر هذه المؤسسات الى رسم خطوط جديدة للمديونية . ستنخفض العوائد بحدة و يقابلها ارتفاع اقل أو أكثر حدة في الكلف ، و تُستنفذ الاحتياطيات السائلة شيئا فشيئا و تتراجع خطوط الائتمان ، و سيكون من المستحيل نظريا إصدار سندات جديدة لتلك الشركات التي تلتزم بدفع ديون مالية كبيرة مستحقة عليها . يتبع هذا و ذاك أن تتذبذب أسعار الأسهم باتجاه تنازلي . في ظل هذا السيناريو سيتحرك المستثمرون و المتاجرون في السوق المالية نحو اعادة تسعير الأسهم ( كم هي قدرة السهم على انتاج عائد مستقبلي ) ، من جهة و يعيدوا تسعير خطر الإئتمان من جهة أخرى . إن هذا كله سيشيع ارتدادات مضخمة للصدمة في أسواق الاسهم و أسواق الموجودات المالية التي تتسم بقدر من المخاطرة ، و سيتناسب حجم تضخيم الأثر طرديا ، مع هشاشة البنية التي ستكشف عن نفسها مع الزمن و مع تتابع و اضطراد المؤشرات .
في السياق المعتاد لسنوات لسياسات البنوك المركزية ، يسود التوقع لدى المستثمرين أن يقوم البنك المركزي بحقن الاقتصاد بالسيولة ، لذا فأن العديد منهم يستمر بالتمدد و الاتساع بحثا عن المزيد من العوائد في ظل نظام يتكييف و يستوعب أي جنوح للمخاطر .
في مثل الحال ومع اشتداد الأزمة يتصرف المستثمرون بسلوك مشابه لسلوك رهط من الناس يداهمهم خطر ما فيتسابقون للخروج من باب ضيق سعيا للأمان ، فارضين بذلك ضغطا” كبيرا على السوق و محددين استجابتها و قدرتها على العمل . و عندما يصاحب هذا الضغط عدم استقرار مالي محموم ، يتأثر الاقتصاد الحقيقي Real economy و يأخذ بمزيد من التراجع فيما يطلق عليه الاقتصاديون بالاستشراء العكسيReverse contamination .
يبدو ان فيروس كورونا المستجد سيسبب أزمة مالية مفاجئة بفداحة تلك التي حدثت في 2007 و 2008 . حتى هذه المرحلة لا يفرض النظام المصرفي مشكلة جدية . ففي الاقتصادات الرأسمالية و خاصة في الولايات المتحدة الامريكية البنوك مدارة رأسماليا بنظام مدفوعات و تسويات يعمل بشكل مرضي . لكن لن يكون من السهل اعادة عمل و نشاط الاقتصاد العالمي ، شديد التداخل كما هو عليه عشية الأزمة ، بعد ان تنجلي .
الأخبار الجيدة .. التعافي و الطريق الى الأمان
لا شك ان الإيذان بمرحلة التعافي سيبدأ عندما يعلن المسؤولون في القطاع الصحي الدولي تأكيدهم بأنه قد تم احتواء فايروس كورونا المستجد و ان مستوى المناعة ازاءه قد بلغ الحد المطلوب ( بالطبع اكتشاف اللقاح يؤدي الغرضين ) . و يقدر البعض ان يميل التعافي الى اخذ منحى سريع و ان لم يكن فوري الاثر. و سيأخذ مدى استعادة المستويات السابقة من تشغيل العاملين و سلاسل العرض و الخزين وقتا يستغرق اسابيع و ربما أشهر من البطالة و عدم الفاعلية . كذلك الحال مع السياسات الحكومية المكيفة و الموائمة لتنسيق الاستجابة لما بعدالأزمة .
و يبقى التطلع الى الاستجابة الصحيحة و المناسبة من الحكومات و شركات الأعمال ، بوصفه هو ما يحدد مسار الركود من حيث أثره و مدته و توصيفه بالقوة و الحدة .
تقتضي العدالة و الديمومة و الامان التوجه في المرحلة الأولى من التعافي لأن تتجه الحكومات الى الطبقات الاجتماعية الاكثر عرضة للتأثر بالأزمة و تأمين وضع القطاعات الحرجة في الاقتصاد بدء” من الرعاية الصحية و ذلك من خلال خطة تضع لها مؤشرات و أوقات مستهدفة يحدد فيها ما يعرف بالقعر الاقتصادي Economic bottom .
أما ما يتعلق بتأمين عودة العمل السلس و المستدام في الأسواق المالية ، فان المرحلة الأولية تقتضي الابتعاد عن استخدام الادوات التحفيزية الكلية ، كتخفيض سعر الفائدة أو الحوافز المالية الواسعة . اذ أن هذه الوسائل لن تجدي نفعا عندما يكون المزاج العام محموم بأساسيات الحياة ، و ها قد لاحظنا ان تخفيض الفائدة الى ما يقرب الصفر من قبل الفدرالي الأمريكي لم يؤت بما يرتجى لزيادة الطلب ، ناهيك عن الاستثمار. فعندما تنتهي المرحلة الأولى و تتأمن المناعة و الأمان يمكن عند ذاك الشروع باستخدام الادوات الاقتصادية الكلية في المرحلة التالية للتعافي .
من زاوية مثالية يتوجب في المرحلة الثانية ، استهداف القطاعات المعنية بتعظيم الانتاجية في الأجل الطويل ، بالتحديد البنى التحتية و التعليم .
لا شك ان كلا المرحلتين يتخللهما اتخاذ قرارات قاسية حول بعض الاستثناءات و معاييرها ، من يستثنى و كيف و لماذا .
من جهة أخرى فان الحكومة و البنوك المركزية عليها ان تتخذ خطوات للتنسيق محليا و دوليا في الاستجابة للمرحلة ، و قد يكون من المناسب هنا اطلاق صيغ للشراكة بين القطاعين و الخاص و سيكون لهذه الشراكة أثر في تخفيف تذبذبات الاسواق المالية من خلال تواصل شفاف و مستمر.
كما يمكن للبنوك المركزية ان تجنب المؤسسات المالية الدخول في مشاكل الملاءة المالية solvency من خلال دعمها بالسيولة . و يمكن للبنوك أن تلعب نفس الدور فيما يتعلق بالمشاريع المتوسطة و الصغيرة .
الوضع الطبيعي الجديد ، الجديد The new , new normal
لقد ترتب وضع طبيعي جديد New normal بعد الكساد الواسع الذي حل في العالم في أعقاب الأزمة المالية 2008 ، فقد استمر سريان ثلاثية أثرت في الثروة و الدخل و فرص العمل ، تمثلت في استمرار النمو البطئ ، استمرار عدم المساواة في الدخول ، و بطء الإستقرار المالي.
في أعقاب هذه الأزمة و في ما سيترتب من وضع جديد .. جديد ، يتوقع أن تتأثر الطبقة المتوسطة و المنشآت المتوسطة الحجم سلبا ، الأمر الذي سيفرض مشاكل سياسية . كما يتوقع أن تسود بعض التبعات الأخرى مثل أسعار الفائدة السالبة في أوربا و اليابان و موجة من الحمائية تنطلق من أمريكا ، من بين مفاجآت أخرى.
سيكون من ملامح الوضع الجديد ، تزايد التراجع عن العولمة و الاقليمية ، بحيث ستظهر خطوط أخرى و ذات منحى آخر للانتاج و العرض و الاستهلاك على الصعيد الدولي.
التأكيد المغالى فيه في القطاعين الخاص و العام على الكلفة الفعالة effective cost سينزاح الى حد ما ليحل محله التأكيد على تلافي المخاطر و ادارتها ، يتبع هذا ان الأدوات الاقتصادية المرتبطة بالتجارة و الاستثمار سيعاد النظر فيها بتكرار كلما استدعت مسائل الأمن الاقتصادي الوطني و الصحي قدرا من القلق الاقتصادي .
أما فيما يخص التنافس على الزعامة بين الأطراف الفاعلة في الاقتصاد الدولي و نخص بالذكر الولايات المتحدة و الصين ، فنشير الى ان التغيرات الكبرى تنكشف بوقائع كبرى ، و نشير هنا الى ان أزمة قناة السويس عام 1956 آذن بانهيار بريطانيا كدولة عظمى ، و على صناع السياسة الأمريكية الادراك الى اهمية الاستجابة الى التحدي الذي فرضه فايروس كورونا ، و الا فان الولايات المتحدة قد تواجه ” لحظة السويس Suez moment ” الخاصة بها .
خلاصة القول ، انه مع قيام ملايين من البشر بعزل انفسهم على امتداد العالم لفترة ما ، طالت أم قصرت ، فان التداعيات الاقتصادية و السياسية لهذا الحدث – الذي صار يعد جللا – سيكون لها قدر كبير في تشكيل آليات و أطراف الاقتصاد الدولي يختلف عن ذاك الذي عرفناه عشية الأزمة .

Comments

LEAVE A REPLY

Please enter your comment!
Please enter your name here

Popular stories